القائمة الرئيسية

الصفحات

السيدة العذراء رائدة التربية الحديثة لم تمنع ابنها من العمل فى النجارة وهى مهنة شاقة

يعتقد الكثير أن التربية عملية سهلة جدًا، والبعض يتصور أنه سيربى كما تربى هو، دون التطلع والنظر للتطور والظروف والملابسات الراهنة، وأن لكل عصر أدواته وآلياته في التربية، فنضطر إلى المرونة، وعدم مقارنة أيامنا بأيامهم، لكن دون الدخول في التفاصيل، كل ما نزرعه مع أبنائنا فعلًا نحصد نتائجه، كلما كان تعبك وسهرك على زرعتك حصدت أفضل الثمار، لذا لا تبخل بوقتك وبمجهودك، لأنه لن يضيع هباء.

كثيرون هم من يرعون أبناءهم (الرعاية تشمل الاهتمام بالمأكل والملبس)، ولكن قليلون هم من يربون (التربية تشمل الاهتمام بالسلوك والقيم والمبادئ).

العذراء مريم والدة الإله، كانت مثالًا لمن يُربى ويشكل العقل والوجدان، وسآخذكم معى في تأملات لحياة العذراء، وكيف طبقت نظريات التربية الحديثة بنجاح.

من أهم الطرق التي ينادى بها خبراءُ التربية هي التربية بالقدوة الحسنة، أن نكون مثلا أعلى وقدوة حقيقية، يقتدى بها أولادنا، لأن الأولاد من سمات مراحلهم التقليد والمحاكاة، فإذا تبعنا سلوكيات حسنة كانت انعكاسًا حقيقيًا على أفعالهم وأقوالهم.

فكيف نبغى وننمى الصدق عند الأبناء، ويكون الآباء ينتهجون الكذب في أقوالهم، ومن المثل المشهور في تناقض الآباء عندما يرن جرس التليفون، ويرفض أحد الآباء الرد على المتصل، تجدهم يدفعون أبناءهم للكذب، ويقولون لهم: قولوا بابا مش هنا، أو ماما نائمة.

فكيف يتسق التعليم هنا، بقول الصدق، بتطبيق الكذب عمليًا؟ لذا عندما نقول فعلًا إننا نحتاج لتهذيب أنفسنا، قبل أن نهذب أولادنا، ولكن حياة السيدة العذراء مريم كانت مليئة بالفضائل والنعم والقداسة، فكانت منذ نعومة أظافرها تطعم الفقراء والمساكين من وجباتها هي، لدرجة أنها كانت تظل دون طعام لمدة طويلة، فيخشى ويرفق عليها الملائكة ويطعمونها.

كانت تساعد كل من يحتاج إليها، وكانت تختار أصعب وأشق المهام في الهيكل. فكانت تملك باتضاع حقيقى، ليس قولًا بل منهجا، ومن أشهر أقوالها الذي يرسخ لفكرة الاتضاع هي الآية التي تقول: «هو ذا أنا أمة الرب... ليكن لى كقولك».

عندما أطلقت على نفسها لقب أمة تعنى أقل درجات العبودية والرق، بالرغم أنها لم تكن عبدة أبدًا، والجزء الثانى من الآية «ليكن لى كقولك»، يكشف أن العذراء كانت مطيعة ووديعة، ولديها ثقة وإيمان كبيران، ومحبة لله، فلم تناقش أو تسأل عن أعباء وأثقال هذه المهام، وخصوصًا أنها فتاة صغيرة، وتعيش في مجتمع ذكورى وشرقى، ومعنى ذلك أنها سوف تتحمل صعوبات ومشقة ونظرة خزى وعار، من كل أفراد المجتمع.

لكنها قالت بصمت «ليكن لى كقولك»، الإيمان في حياتها مذهل حقًا، طفلة لم تكمل الـ١٣ عامًا، بهذا الإيمان، وهذه القوة والطاعة والمحبة، وتحمل المسئولية، كلها صفات قدوة لكل من حولها، فعندئذ سوف تكون حياتها قدوة حقيقية، لأنها مثال حقيقى للأم المثالية، التي تتسق أقوالها مع أفعالها، والذي نفتقده بشدة مع أمهات هذا الزمن، اللائى يصفن أبناءهم بالكذب، دون مواجهة أنفسهم بالحقيقة، أن أفعالهم تخلو من الصدق، فلذلك يكون الأولاد انعكاسا طبيعيا ومرآة لآفعال الآباء، فنحن الآن ننظر نظريات جافة خالية من التطبيق والقدوة، فكيف لنا أن نأمر بشىء ونفعل عكسه، لذا فاتساق أفعالنا مع أقوالنا يعلم الأبناء السلوكيات الصحيحة.

ومن أشهر الأخطاء التي يقع فيها المربون حاليًا، هي التربية بالحماية الزائدة (التربية بالحب الشديد الذي يؤذى الخالى من إعطاء مساحة من الحرية والاختيار والمسئولية)، كما يقول البعض بأن «من الحب ما قتل».

لا ننكر أبدًا أن التربية بالحب من أهم مبادئ وطرق التربية وتعديل السلوك، وأن الحب فعلًا يصنع المعجزات، ولكن كثيرين يبالغون في إعطاء جرعات حب ضارة بأبنائهم، وهذا ما يندرج تحت الحماية الزائدة، فمثلًا إذا قامت المدرسة بعمل رحلة مدرسية، يرفض بعض الآباء بحجة حماية أبنائهم من الأخطار، وقلقهم الشديد على أبنائهم، في حين أن هناك فوائد كثيرة، وخبرات ومهارات أكثر، من وراء التحاقهم بهذا النشاط.

أما اتباع منهج الحماية الزائدة، فينتج عند الأبناء الخنوع، والخضوع، وعدم الثقة بالنفس، وعدم تحمل المسئولية، ويجعل منهم شخصية بلا طعم، وجسدًا بلا روح، في حين أن العذراء مريم، وهى الطفلة الصغيرة، التي تحملت التربية في سن مبكر جدًا، لم تقع في هذا الخطأ، بالرغم من حبها الشديد لابنها، ولم تدرس النظريات الحديثة في التربية، لكنها كانت تطبقها ببراعة وروعة، وكانت تتصرف وتربى بوعى وحكمة شديدين.

فكانت تعطى السيد المسيح الحرية في التصرف، وأن يكون مسئولًا، حتى وهو صغير، ويتضح ذلك من خلال موقف وتصرف السيد المسيح في زيارتهما إلى الهيكل، حيث كان عمره وقتها ١٢ عامًا، نراه يناقش العلماء في الهيكل بحكمة وذكاء ولباقة، لدرجة أن الشيوخ والعلماء بهتوا وتعجبوا من نقاشه، فكيف لطفل صغير يكون لديه كل هذه الحكمة والكياسة والذكاء، فأسلوبه في الحوار لم يكن لطفل صغير أبدا.

وهذا يدل على أن العذراء مريم كانت تتعامل معه كرجل مسئول، وليس كطفل، وكانت تجعله أيضًا يساعد أبيه النجار، ولم تخشْ أبدا عليه من أدوات النجارة والمسامير، وطبيعة المهنة الشاقة والمرهقة، لطفل صغير. كانت تنمى لديه تحمل المسئولة، وتعمل على تنمية كل جوانب حياته، فكما ينادى علماء التربية الآن بأن ننمى كل الجوانب الحسية والمهارات الحياتية لأبنائنا، ونعطيهم قدرًا من تحمل المسئولية في الاختيارات.

بالرغم من حبها الشديد لابنها المميز جدًا لم تكن تحميه حماية زائدة، بل كانت تنمى وتشجعه على اتباع سلوكيات ذكية، فلم تعطه أوامر حينما تذهب إلى الهيكل.. لا تفارقنى.. لا تتحدث مع الكبار.. لا تبعد عنى.. لا تجادل. ولا... إلخ، بل ذهب وحاور العلماء، لدرجة أنه غاب عنها ٣ أيام، حقيقى أنها كأم شعرت بالقلق عليه، وحتى عندما عثرت عليه، ووجدته أخذته بحنان، ونظرة عين تلومه، على ما سببه لها من قلق، وحوار دافئ، فلم تحبس حديثه أبدًا، دائمًا ما تلمس من العذراء مريم أن تعطى الثقة الدائمة لتصرفات سيدها وإلهها، وتمدح المسئولية في أفعاله.

فقد أمسكت الخيط من النصف بدقة متناهية، وحكمة شديدة، أعطته حرية التصرف والثقة في أفعاله والمسئولية، وهذا يتضح أيضًا عندما أصبح شابًا، وحوارها معه في عرس قانا الخليل، عندما شعرت العذراء مريم بخجل أهل العرس، بفروغ الخمر من الأجران، نظرت لابنها بكل الثقة، (التربية بالنظرة نفتقد هذا الأسلوب في الوقت الحاضر)، وقالت لأصحاب العرس كل ما يقوله لكم افعلوه، الثقة الشديدة في أن ابنها سينقذ الموقف: لأنه أهل لذلك، حيث إنها ربته وعودته على مبدأ المسئولية وتحملها، والثقة في رد فعله (إذا أعطينا الثقة لأبنائنا لن ترجع فارغة أبدًا)، فعندما نثق بهم وبقدراتهم سوف نحصد نتائج مثمرة لذلك، حتى إنهم إذا تعرضوا للخطأ لن يفعلوه، حيث يقولون أبى وأمى يعطيانى الثقة.. فكيف أخذلهم؟

لذا كانت العذراء مثالًا لتطبيق النظريات التربوية الحديثة، التي تشجع وتمدح وتكافئ على الأفعال الإيجابية، وهذه الوسائل يشجع عليها الآن خبراء التربية، الذين ينادون بمبدأ الثواب والمكافأة عند فعل الإيجابيات، ويقولون إن تعزيز الإيجابيات يقلل من ظهور السلبيات عند الأبناء، فكلما كافأنا أبناءنا على الإيجابيات سيكثر ظهورها، أفضل بكثير من تسليط الضوء على الأخطاء، والعقاب الكثير عليها، فهو يقلل من ظهور الإيجابيات ويكثر من السلبيات ويجعل لديهم شعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس، وعدم تحمل المسئولية.

كثير منا في هذه الأيام يكون دوره عند أولاده مجرد بنك يصرف له، ويسدد احتياجاته المادية، بدلًا من إعطاء الحب والحنان والأمان والرعاية، والاهتمام بالأمور الجسدية والشكلية، دون الاهتمام بتسديد الاحتياجات النفسية والروحية، فيتخلص دور المربين الآن في كلمة بكام؟ ارجعوا أيها الآباء لنموذج العذراء في التربية بالحب والحنان والحوار والقدوة والسلوك المُعاش، وتذكروا السيدة التي مدحت تربية العذراء مريم، عندما سمعت المسيح يعظ، فقالت وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا، رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ: «طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِى حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا» (إنجيل لوقا ١١: ٢٧،). وتربيتها جعلت المسيح لا ينسها وهو على الصليب، في أقسى الآلام، ويوصى تلميذه يوحنا برعايتها.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات