كانت رياح أكتوبر 2011 الخفيفة تهب على عزبة شاكر الهادئة، القابعة فى قلب صعيد مصر بمحافظة المنيا، الجميع يلتزم بيته مع بداية الليل ملتحفين بدفء البيوت الطينية الفقيرة، وبينما كان فى طريق عودته من أرضه لاحظ الفلاح «عياد صليب»، تغيراً ملحوظاً فى معاملة جيرانه، فما عادوا يردون عليه السلام خلال مروره على أبواب منازلهم كعادته اليومية، بادر أحدهم بالسؤال عن هذا التجاهل المتعمد، فرد عليه جاره بملامح متجهمة وصوت غاضب: «ابنك أساء للرسول على فيس بوك»، وقبل أن يكمل قاطعه الرجل العجوز قائلاً بصوت باتر: «مش ممكن أبداً».
أهالى المهجّرين من قراهم بعد «صلح عرفى» لـ« »: ولادنا مادخلوش بيوتهم من أربع سنين.. والبعض كان يأتى للقرية ليلاً متخفياً لزيارة أهله
وتوجه «صليب» لمنزله بسرعة لافتة، هاتف نجله «نور» الذى يعمل فى أحد فنادق الغردقة ليسأله عما بدر منه فى حق الرسول محمد، حيث أكد له الشاب الثلاثينى بشكل قاطع أنه لم يكتب شيئاً، وبمراجعة حسابه وجد أن شخصاً ما وضع صورة مسيئة للرسول على صفحته، فعلى الفور جاء بزملائه المسلمين، وأطلعهم عما وُضع على صفحته دون إرادة منه، ليكونوا شاهدين أنه لم يكتب شيئاً مسيئاً لرسول الإسلام، هكذا يروى «صليب» لـ«الوطن» بداية الأزمة التى انتهت بتهجيره وأسرته بالكامل من قريتهم قبل أربعة أعوام، قبل أن يعود إليها شريطة أن يظهر تهجيره نجله نور خارجها، والذى لم يستطع أن تطأ قدمه القرية من يومها.
بعد ثلاثة أيام، تطورت الأحداث، واشتعلت الفتنة كالنار فى الهشيم، هاجم مسلمون منزل «صليب»، وحاولوا اقتحامه، لولا تدخل بعض العقلاء من مسلمى القرية لحمايته، حسب روايته، لينتهى الأمر لجلسة صلح عرفية لحل الأزمة، دعا لها مأمور مركز مطاى عاطف غراب، وبحضور شيخ جامع القرية وقس من الكنيسة وشيخ البلد وبعض أعضاء مجلس شعب «مبارك» المنحل وضباط المباحث.
ولكن قبل أن تبدأ الجلسة التى كان مقرراً لها أن تقام بجامع القرية طُرد «صليب» منها، بعد ما صاح فيه إمام الجامع وهو على الباب قائلاً: «الكفار مايدخلوش بيوت ربنا»، لتنقل الجلسة وتقام فى مقر مركز شرطة مطاى، وقبل أن تبدأ طلب مأمور المركز من «صليب» أن ينتقل بأسرته خارج القرية حتى لا تتجدد الأزمة: «قال لى شوف لك مكان انت وعيلتك تقعد فيه»، ليهجَّر الرجل بأسرته التى يتعدى عددها 21 فرداً مفرقين على ثلاثة منازل إلى مركز سمالوط.
وفى ليلة تهجير الأسرة، أقيمت الجلسة العرفية بحضور «كُبارات البلد» وتحت رعاية الشرطة، وأقيمت داخل مركز الشرطة، وانتهت بتغريم الرجل وأسرته 100 ألف جنيه، فاشتكى «صليب» من ضيق الحال وعدم استطاعته تسديد ذلك المبلغ، حاول عمدة القرية التكفل بالمبلغ فرفض، حاولت الكنيسة أن تدفع عنه، ولكنه رفض أيضاً، فانتهت الجلسة بضرورة إمضاء على «وصل أمانة» بالمبلغ، وحين أعلن «الكبارات» حكمهم على أهل القرية رفضوه وطالبوا بعدم عودة صليب وأسرته للقرية، فأعاد إمام المسجد وصل الأمانة لصليب قائلاً: «مش هنقدر غير نرضى أهل القرية».
سلم «نور»، نجل صليب، نفسه للمركز، وانتهت التحقيقات معه بخروجه بكفالة لعدم ثبوت اتهامه بازدراء الأديان، بعد شهادة زملائه المسلمين بعدم مسئوليته عما كتب، طالبوا أعضاء الجلسة العرفية ببقاء نجله فى السجن حتى تهدأ أمور البلد، ولكن وكيل النيابة رفض، وانعقدت الجلسة العرفية من جديد أكثر من مرة، فى ظل بقائهم داخل دير العذراء بسمالوط، الذى استقروا بداخله فى انتظار حل الأزمة، طالب «صليب» ببعض من ملابسه وملابس أهل بيته وبعض احتياجاتهم بعدما طالت المدة، ولكنه فوجئ بسرقة منزله، وما تبقى بعد السرقة نقله أهل البلد له فى الدير: «حتى المراوح إلى فى السقف قلعوها، وحرقوا البيت وهدوا الحيطان».
وظل الرجل وأسرته فى الدير لعامين كاملين، بعيداً عن منزله وأرضه، حتى نشبت أحداث 30 يونيو، ومع رحيل الإخوان، وفى 25 أكتوبر، قررت إدارة المحافظة إعادته لمنزله وقريته شريطة بقاء نجله مهجراً فى سمالوط وعدم زيارته داخل القرية: «كل ما يهفنا الشوق نروح نشوفه إحنا فى سمالوط لكن هو مايقدرش يهوب ناحية القرية».
على بعد بضعة كيلومترات من قرية «عياد صليب»، وبالتحديد فى قرية «صفط أبوجرج المسلمين» التابعة لمركز بنى مزار، والتى يعيش أقباط القرية فى شارع ضيق ومنزوى فى نهايتها، يطلقون عليه «شارع النصارى»، كانت هناك قصة أخرى، أزمة أخرى انتهت بتهجير «مؤمن مجدى» من القرية.
بمجرد الولوج لشارع النصارى، تظهر الصلبان جلية على جدران المنازل، وفوقها كتب «ربنا موجود»، هنا كان يقطن ويعمل مؤمن مجدى، صيدلى مسيحى، قبل أربع سنوات من تهجيره من قريته، بعدما قرر أن يكتب رأى الدكتور محمد البرادعى عن الفقر ويقارنه بالشيخ الحوينى على صفحته الشخصية على «فيس بوك»، وهو ما أثار حفيظة السلفيين من أهل القرية، هاجم أهل القرية الصيدلية، وانتهى الأمر أيضاً بجلسة صلح عرفية، تحت رعاية الشرطة، انتهت بتهجير كالعادة، حسبما يروى ابن عمه «بيتر مجدى» شاب عشرينى يعمل بمحل بقالة بالقرية. «مجدى» يقول بصوت خافت إن «مؤمن» ظل يزور القرية لعامين ليلاً متخفياً خوفاً من أهل القرية، ورغم هدوء الأوضاع فإنه حتى الآن ما زال يعيش فى مركز بنى مزار بعيداً عن القرية، تواصلت «الوطن» مع مؤمن، الذى بدا عليه الخوف، وحاولت لقاءه، ولكنه تهرّب بعدما اتفق مع محرر الجريدة على موعد أكثر من مرة.
فى عام 2014، صدرت دراسة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تتناول دور الجلسات العرفية فى النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة خلال أربع سنوات من حكم المجلس العسكرى وثلاثة رؤساء، جاءت 45 جلسة «عرفية» ظالمة، انتهكت حقوق المواطنين الأقباط، حسب الدراسة، وتستعرض الدراسة أنماط النزاعات الطائفية بشكل عام وتصنفها فى ستة أنماط رئيسية، وهى الصراع حول ممارسة الشعائر الدينية، الصراع حول العلاقات الجنسية والعاطفية الرضائية، النزاعات المرتبطة بالتعبير عن الرأى فى مسائل دينية، الصراعات المترتبة على مشاجرات أهلية، الصراعات المترتبة على الخلافات السياسية، وأخيراً النزاعات المترتبة على جرائم مقترنة باستضعاف الأقباط بشكل عام، كالخطف أو الابتزاز المالى.
وتقول الدراسة إن ضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن القيام بوظيفتها فى حماية السلم الاجتماعى وحياة وممتلكات المواطنين يؤدى إلى لجوء قطاع من المواطنين إلى هذه الجلسات كأسلوب لحل النزاعات وتسوية الخلافات، خوفاً من تفاقمها وتداعياتها، خصوصاً فى ظل مظاهر وأشكال التوتر الطائفى والدينى المنتشرة فى عديد من محافظات الجمهورية، وفى بعض الحالات لجأت القيادات الأمنية والعسكرية خلال تولى الجيش مهام حفظ الأمن إبان ثورة يناير ٢٠١١، إلى قيادات سلفية لإقناع الجانب المعتدى بوقف الاعتداءات مع تقديم ضمانات بعدم الملاحقة القضائية.
أهالى المهجّرين من قراهم بعد «صلح عرفى» لـ« »: ولادنا مادخلوش بيوتهم من أربع سنين.. والبعض كان يأتى للقرية ليلاً متخفياً لزيارة أهله
وتوجه «صليب» لمنزله بسرعة لافتة، هاتف نجله «نور» الذى يعمل فى أحد فنادق الغردقة ليسأله عما بدر منه فى حق الرسول محمد، حيث أكد له الشاب الثلاثينى بشكل قاطع أنه لم يكتب شيئاً، وبمراجعة حسابه وجد أن شخصاً ما وضع صورة مسيئة للرسول على صفحته، فعلى الفور جاء بزملائه المسلمين، وأطلعهم عما وُضع على صفحته دون إرادة منه، ليكونوا شاهدين أنه لم يكتب شيئاً مسيئاً لرسول الإسلام، هكذا يروى «صليب» لـ«الوطن» بداية الأزمة التى انتهت بتهجيره وأسرته بالكامل من قريتهم قبل أربعة أعوام، قبل أن يعود إليها شريطة أن يظهر تهجيره نجله نور خارجها، والذى لم يستطع أن تطأ قدمه القرية من يومها.
بعد ثلاثة أيام، تطورت الأحداث، واشتعلت الفتنة كالنار فى الهشيم، هاجم مسلمون منزل «صليب»، وحاولوا اقتحامه، لولا تدخل بعض العقلاء من مسلمى القرية لحمايته، حسب روايته، لينتهى الأمر لجلسة صلح عرفية لحل الأزمة، دعا لها مأمور مركز مطاى عاطف غراب، وبحضور شيخ جامع القرية وقس من الكنيسة وشيخ البلد وبعض أعضاء مجلس شعب «مبارك» المنحل وضباط المباحث.
ولكن قبل أن تبدأ الجلسة التى كان مقرراً لها أن تقام بجامع القرية طُرد «صليب» منها، بعد ما صاح فيه إمام الجامع وهو على الباب قائلاً: «الكفار مايدخلوش بيوت ربنا»، لتنقل الجلسة وتقام فى مقر مركز شرطة مطاى، وقبل أن تبدأ طلب مأمور المركز من «صليب» أن ينتقل بأسرته خارج القرية حتى لا تتجدد الأزمة: «قال لى شوف لك مكان انت وعيلتك تقعد فيه»، ليهجَّر الرجل بأسرته التى يتعدى عددها 21 فرداً مفرقين على ثلاثة منازل إلى مركز سمالوط.
وفى ليلة تهجير الأسرة، أقيمت الجلسة العرفية بحضور «كُبارات البلد» وتحت رعاية الشرطة، وأقيمت داخل مركز الشرطة، وانتهت بتغريم الرجل وأسرته 100 ألف جنيه، فاشتكى «صليب» من ضيق الحال وعدم استطاعته تسديد ذلك المبلغ، حاول عمدة القرية التكفل بالمبلغ فرفض، حاولت الكنيسة أن تدفع عنه، ولكنه رفض أيضاً، فانتهت الجلسة بضرورة إمضاء على «وصل أمانة» بالمبلغ، وحين أعلن «الكبارات» حكمهم على أهل القرية رفضوه وطالبوا بعدم عودة صليب وأسرته للقرية، فأعاد إمام المسجد وصل الأمانة لصليب قائلاً: «مش هنقدر غير نرضى أهل القرية».
سلم «نور»، نجل صليب، نفسه للمركز، وانتهت التحقيقات معه بخروجه بكفالة لعدم ثبوت اتهامه بازدراء الأديان، بعد شهادة زملائه المسلمين بعدم مسئوليته عما كتب، طالبوا أعضاء الجلسة العرفية ببقاء نجله فى السجن حتى تهدأ أمور البلد، ولكن وكيل النيابة رفض، وانعقدت الجلسة العرفية من جديد أكثر من مرة، فى ظل بقائهم داخل دير العذراء بسمالوط، الذى استقروا بداخله فى انتظار حل الأزمة، طالب «صليب» ببعض من ملابسه وملابس أهل بيته وبعض احتياجاتهم بعدما طالت المدة، ولكنه فوجئ بسرقة منزله، وما تبقى بعد السرقة نقله أهل البلد له فى الدير: «حتى المراوح إلى فى السقف قلعوها، وحرقوا البيت وهدوا الحيطان».
وظل الرجل وأسرته فى الدير لعامين كاملين، بعيداً عن منزله وأرضه، حتى نشبت أحداث 30 يونيو، ومع رحيل الإخوان، وفى 25 أكتوبر، قررت إدارة المحافظة إعادته لمنزله وقريته شريطة بقاء نجله مهجراً فى سمالوط وعدم زيارته داخل القرية: «كل ما يهفنا الشوق نروح نشوفه إحنا فى سمالوط لكن هو مايقدرش يهوب ناحية القرية».
على بعد بضعة كيلومترات من قرية «عياد صليب»، وبالتحديد فى قرية «صفط أبوجرج المسلمين» التابعة لمركز بنى مزار، والتى يعيش أقباط القرية فى شارع ضيق ومنزوى فى نهايتها، يطلقون عليه «شارع النصارى»، كانت هناك قصة أخرى، أزمة أخرى انتهت بتهجير «مؤمن مجدى» من القرية.
بمجرد الولوج لشارع النصارى، تظهر الصلبان جلية على جدران المنازل، وفوقها كتب «ربنا موجود»، هنا كان يقطن ويعمل مؤمن مجدى، صيدلى مسيحى، قبل أربع سنوات من تهجيره من قريته، بعدما قرر أن يكتب رأى الدكتور محمد البرادعى عن الفقر ويقارنه بالشيخ الحوينى على صفحته الشخصية على «فيس بوك»، وهو ما أثار حفيظة السلفيين من أهل القرية، هاجم أهل القرية الصيدلية، وانتهى الأمر أيضاً بجلسة صلح عرفية، تحت رعاية الشرطة، انتهت بتهجير كالعادة، حسبما يروى ابن عمه «بيتر مجدى» شاب عشرينى يعمل بمحل بقالة بالقرية. «مجدى» يقول بصوت خافت إن «مؤمن» ظل يزور القرية لعامين ليلاً متخفياً خوفاً من أهل القرية، ورغم هدوء الأوضاع فإنه حتى الآن ما زال يعيش فى مركز بنى مزار بعيداً عن القرية، تواصلت «الوطن» مع مؤمن، الذى بدا عليه الخوف، وحاولت لقاءه، ولكنه تهرّب بعدما اتفق مع محرر الجريدة على موعد أكثر من مرة.
فى عام 2014، صدرت دراسة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تتناول دور الجلسات العرفية فى النزاعات الطائفية ومسئولية الدولة خلال أربع سنوات من حكم المجلس العسكرى وثلاثة رؤساء، جاءت 45 جلسة «عرفية» ظالمة، انتهكت حقوق المواطنين الأقباط، حسب الدراسة، وتستعرض الدراسة أنماط النزاعات الطائفية بشكل عام وتصنفها فى ستة أنماط رئيسية، وهى الصراع حول ممارسة الشعائر الدينية، الصراع حول العلاقات الجنسية والعاطفية الرضائية، النزاعات المرتبطة بالتعبير عن الرأى فى مسائل دينية، الصراعات المترتبة على مشاجرات أهلية، الصراعات المترتبة على الخلافات السياسية، وأخيراً النزاعات المترتبة على جرائم مقترنة باستضعاف الأقباط بشكل عام، كالخطف أو الابتزاز المالى.
وتقول الدراسة إن ضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن القيام بوظيفتها فى حماية السلم الاجتماعى وحياة وممتلكات المواطنين يؤدى إلى لجوء قطاع من المواطنين إلى هذه الجلسات كأسلوب لحل النزاعات وتسوية الخلافات، خوفاً من تفاقمها وتداعياتها، خصوصاً فى ظل مظاهر وأشكال التوتر الطائفى والدينى المنتشرة فى عديد من محافظات الجمهورية، وفى بعض الحالات لجأت القيادات الأمنية والعسكرية خلال تولى الجيش مهام حفظ الأمن إبان ثورة يناير ٢٠١١، إلى قيادات سلفية لإقناع الجانب المعتدى بوقف الاعتداءات مع تقديم ضمانات بعدم الملاحقة القضائية.
تعليقات
إرسال تعليق