بينما يحارب تنظيم داعش للتوسع في ليبيا، فإنه يكافئ مقاتليه من خلال استغلال الأعداد الكبيرة من المهاجرين الأفارقة الذين يتدفقون على البلاد سعيا للوصول إلى أوروبا. طرابلس- إرم نيوز
تنتشر ممارسات تنظيم داعش السلبية ضد المرأة على أشكال مختلفة؛ فتارة يستغلها فيما يسمى بجهاد النكاح وتارة أخرى في العمليات الانتحارية، وأحيانا يعرضهن للبيع في سوق النخاسة، معيدا بذلك ظاهرة سبي النساء في العقود الغابرة.
وبعد أن اشتهر التنظيم المتشدد مؤخرا بسبي النساء الإزيديات في العراق، يبدو أن الدور جاء على فرعه في شمال إفريقيا، وتحديا تنظيم داعش في ليبيا، الذي يتخذ من مدينة سرت إحدى أهم معاقله.
وتمثل سرت أهمية استراتيجية لداعش، فهي تقع على طريق سريع يربط مركزين لتهريب البشر في ليبيا، هما أجدابيا في الشمال الشرقي حيث يتوقف المهاجرون لتسوية الأمور المالية مع المهربين، وموانئ الصيد في الغرب حيث تبحر القوارب إلى أوروبا كل أسبوع.
ومن آخر سبايا داعش في ليبيا الفتاة الإريترية روتا فيسهاي البالغة من العمر 24 عاما، وتعود قصتها إلى ليلة الثاني من يونيو/ حزيران العام الماضي؛ حين أغلق مسلحون طريقا سريعا على الساحل الشمالي لليبيا وأوقفوا شاحنة بيضاء كانت متجهة إلى العاصمة طرابلس، وصوبوا بنادقهم إلى السائق وصعد 3 إلى الشاحنة لتفتيشها.
الوقوع في أيدي داعش
وكانت الفتاة راقدة في عربة المقطورة الأولى من الشاحنة، رفقة 85 رجلا وامرأة من إريتريا بينهم سيدة حامل، اختبأ بضع عشرات من المصريين في عربة المقطورة الثانية، يجمعهم حلم واحد هو الوصول إلى أوروبا.
وأمر المسلحون المهاجرين بالنزول من الشاحنة، وفصلوا المسلمين عن المسيحيين ثم الرجال عن النساء، وطلبوا ممن قالوا إنهم مسلمون تلاوة الشهادة، فتلا المصريون الشهادة في صوت واحد، “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله” ليرد رجال داعش بالتكبير.
وأمام هذا المشهد أدركت الفتاة الإريتيرية فيسهاي أنها أصبحت في أيدي تنظيم داعش، ثم ارتدى خاطفوها جلبابا مموها وهي ملابس لم ترها على أي رجال غيرهم في ليبيا، اختبأ معظمهم وراء أقنعة، ورفرف علم أسود من إحدى شاحناتهم الصغيرة.
ولكن فيسهاي لم السبية الوحيدة لدى التنظيم في هذه “الغزوة” بل إن ثماني نساء أخريات استرقهن داعش، بالإضافة إلى خمسة رجال اختطفوا أيضا، ووجدو أنفسهم عبيدا تحت سياط القوة.
وتتذكر فيسهاي وهي مسيحية ترتدي قلادة من الخيط الأسود ترمز لعقيدتها الأرثوذكسية، بحزن تلك الواقعة؛ وتقول “كنا متأكدين أنهم سيأخذوننا إلى حتفنا… بكينا يائسين”، مضيفة “لكن خاطفينا حضروا لغاية أخرى”.
وبينما يحارب تنظيم داعش للتوسع في ليبيا، فإنه يكافئ مقاتليه من خلال استغلال الأعداد الكبيرة من المهاجرين الأفارقة الذين يتدفقون على البلاد سعيا للوصول إلى أوروبا.
التنظيم يستعبد اللاجئين
ووفقا لروايات فيسهاي وناجين آخرين أجريت معهم مقابلات فإن التنظيم اتخذ عبيدا من الأعداد الكبيرة من اللاجئين الذين يمرون عبر الأراضي الخاضعة لسيطرته.
وجرت خمس من ست عمليات خطف جماعي على شريط من الأرض يبلغ طوله 160 كيلومترا قرب سرت في مارس/آذار ويونيو /حزيران ويوليو/ تموز/ وأغسطس /آب وسبتمبر/ أيلول من العام الماضي، ووقعت عملية الخطف السادسة قرب حدود ليبيا مع السودان في يناير/ كانون الثاني هذا العام.
وتحدث لاجئون في ثلاث دول أوروبية عن تجربتهم على مدار أربعة أشهر، ووافقت امرأتان على نشر اسميهما مجازفتين بأن تعانيا من الوصمة التي تلاحق الناجيات من العنف الجنسي.
المسار الطويل
وقبل أن تغادر إريتريا، شعرت فيسهاي بأنها سجينة عملها كبائعة في مزرعة مملوكة للحكومة، على غرار معظم الشباب في بلادها، وكانت الفتاة مجندة في الخدمة الوطنية طويلة الأمد، التي تفرضها الدولة التي تمتد لما بعد الأشهر الثمانية عشر التي ينص عليها القانون بكثير.
وتعيش فيسهاي بالكاد من راتبها الضئيل الذي يبلغ 36 دولارا شهريا، لكنها شعرت أيضا بأنها لا تستطيع الاستقالة والمجازفة بإغضاب الحكومة التي تتهم عادة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
وقررت فيسهاي وهي امرأة ضئيلة البنية تملأ ابتسامتها وجهها خوض المجازفة، ففي يناير/ كانون الثاني 2015 عبرت الحدود إلى السودان مع قريب وصديقين وقد تعلق قلبها بأوروبا.
وفي العاصمة السودانية الخرطوم قضت فيسهاي أربعة أشهر لجمع مبلغ 1400 دولار الذي تحتاجه لسداد الرسوم لمهرب من أجل القيام بالرحلة إلى ليبيا، وحاولت العثور على عمل مربح دون جدوى.
وعلى غرار آلاف اللاجئين الذين سبقوها اتصلت بأقارب في الخارج لمساعدتها، وتحدثت إلى بعض من هاجروا قبل وقت قريب وعثرت على مهرّب إريتري أشاد به عملاؤه.
وقبل أن تنطلق عبر الصحراء استمعت إلى قصص عن مجرمين مسلحين يغتصبون النساء في ليبيا، فسددت مبلغا لطبيب ليحقنها بعقار لمنع الحمل، يستمر مفعوله لثلاثة أشهر، وبررت ما فيسهاي ما فعلت بالقول “حين تترك إريتريا يستحيل أن تعود، فعلت ما ستفعله أي امرأة”.
وتخطت فيسهاي المحطة الأولى من رحلتها بلا عقبات، واستطاعت في مايو/ أيار العبور ضمن قافللة من الصحراء الكبرى إلى أن وصلت إلى أجدابيا بشمال شرق ليبيا.
وهنا اعتقدت فيسهاي أنها اجتازت المرحلة الصعبة من الرحلة، وعلى الرغم من أنه لا توجد جهة تحصي أعداد المهاجرين الذين يموتون من المرض أو الجوع والعنف فيو الصحراء، فإن جماعات معنية بشؤون اللاجئين تقول إن أعداد من يفقدون حياتهم في الصحراء ربما تزيد على أعداد من يغرقون بالبحر المتوسط.
وقالت فيسهاي “لم يوقفنا أحد في الصحراء… والمهربون قالوا لنا إننا يجب ألا نقلق بشأن داعش… لم أتوقع أن أرى ولاية منظمة مثل ولايتهم في ليبيا”، لكنها كانت مخطئة.
ما الذي حدث؟
وفي الليلة التي اختطفت فيها فيسهاي أمرها مسلحو داعش وغيرها من المسيحيين بالعودة إلى الشاحنة، صعد الرجال إلى عربة المقطورة الأمامية، بينما صعدت النساءوعددهن الإجمالي 22 إلى العربة الخلفية، وتحركوا باتجاه الشرق على نفس الطريق الذي سلكوه قبل ذلك بساعات، وتبعتهم شاحنة صغيرة مزودة بمدفع رشاش.
وبعد ذلك بنصف ساعة استدارت الشاحنة إلى طريق ترابي، ولاحت أنوار البلدة في الأفق، شاهد بعض من الأسرى الرجال مقاطع فيديو لعمليات قطع الرأس بحد السيف التي ينفذها التنظيم المتشدد، وحين أدركوا أن المسلحين ينتمون لهذه الجماعة قفز الرجال وفروا في الصحراء، فاندلع إطلاق نار، البعض قتل، بينما أسر البعض الآخر، ولم ينجح في الهرب سوى عدد قليل.
القتل بالرصاص أفضل من القتل بحد السيف
ويقول هاجوس هاجدو وهو أحد الرجال الذين قفزوا من الشاحنة في مقابلة في هالستا بالسويد “فكرنا أن قتلنا بالرصاص أفضل من قطع رؤوسنا بحد السيف”، لم يؤسر في تلك الليلة ونجح في الوصول إلى أوروبا بعد ذلك بشهرين.
وعبر هاجدو عن تبرير مغامرته بالهرب من أيدي المسلحين المتشددين بالقول “لم نرد أن نموت وأيدينا وأرجلنا مقيدة، حتى الحيوان يحتاج إلى أن يتلوى في ساعة الموت”.
ووضع المقاتلون المهاجرين في مستشفى مهجور بمنطقة وعرة قرب بلدة النوفلية الصحراوية، وفتشوا النساء بحثا عن مصوغات، فكانوا يرفعون أكمامهن باستخدام قضيب، نقلوهن إلى حجرة صغيرة كانت بها امرأة نيجيرية محتجزة.
الإكراه على الإسلام
وفي الصباح التالي قام أحد قادة المقاتلين وهو من غرب أفريقيا بزيارة النساء، وأحضر صبيا صغيرا، وهو واحد من 7 أطفال إريتريين على الأقل اختطفهم داعش في مارس/ آذار ليترجم له.
سأل الرجل: “هل تعلمن من نكون؟”.
التزمت النساء الصمت.
قال الرجل: “نحن الدولة الإسلامية”.
وذكر النساء بأن “الدولة الإسلامية” هي الجماعة التي ذبحت 30 مسيحيا من إريتريا وإثيوبيا في أبريل/ نيسان وصورت المذبحة ونشرت الفيديو على الإنترنت، وطمأنهن إلى أن “دولة الخلافة” لن تعدمهن لأنهن نساء، لكن في حالة واحدة فقط وهي إذا اعتنقن الإسلام، محذرا بالقول “وإلا سنتركن لتتعفن هنا”.
وجدت فيسهاي أن اعتناق ديانة أخرى إثم حسب عقيدتها، وانهالت هي والنساء الأخريات بالأسئلة على الرجل، هل نستطيع أن نتصل بعائلاتنا ونخبرهم أين نحن، هل يمكنهم دفع فدية لإطلاق سراحنا، هل تستطيع أن تخبرنا ماذا فعلتم بإخوتنا وبأزواجنا، ولم يقدم الرجل سوى بضع إجابات لم يجدن فيها عزاء.
الفرج كاد يأتي في القصف
وبعد هذا الحوار بثلاثة أسابيع، وتحديدا في الأسبوع الأول من شهر رمضان في يونيو/ حزيران قصفت مقاتلات مجمع المستشفى المهجور وانهارت بعض المباني، ومن الصعب تحديد من يقف وراء الهجوم، حيث أعلن كل من الجيش الأمريكي وجماعات غرب ليبيا تنفيذ غارات على بلدات قريبة في نفس التوقيت تقريبا.
وخلال الفوضى التي أعقبت ذلك، ركضت فيسهاي والنساء الأخريات بين الأنقاض حافيات الأقدام في الصحراء، أحرقت سخونة الأرض أقدامهن، ركض الرجال الأسرى الذين كانوا محتجزين في نفس المجمع طيلة هذه الفترة أمامهن سريعا.
ورأى الأسرى أمامهم ظل شاحنة صغيرة ورجالا يحملون بنادق، لوح المسلحون للمهاجرين ليتوقفوا ثم فتحوا النار، توقفت النساء، فر معظم المهاجرين من الرجال لكن تم القبض على 11 منهم وجلدهم، ومكانهم غير معروف.
واستمرت الضربات الجوية خلال الأسبوع، وفي نهاية المطاف نقل مقاتلو داعش النساء إلى المقر المهجور لشركة مقاولات تركية في النوفلية على بعد ساعتين.
وضم السجن المؤقت آلات لتمهيد الأرض وجرافات استخدمت في مشاريع لمد الطرق في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة يغطيها الصدأ تحت حرارة الشمس الشديدة، فيما حفر العمال المؤقتون أسماءهم وأسماء دولهم على جدران المجمع.
ومكثت فيسهاي والنساء الأخريات في حجرة صغيرة، حيث كانت الحوائط الجاهزة المقامة منها الحجرة تتفصد عند ارتفاع درجات الحرارة، كما سجنت أسرة كورية مكونة من طبيب أطفال وزوجته وأخيها في حجرة أخرى.
محاولة للهرب
واستغرقت فيسهاي والنساء الأخريات أسبوعا فقط لتقمن بمحاولة أخرى للهروب، فرت 9 ليست بينهن فيسهاي، بل إنها أعيدت إلى السجن المؤقت وجلدت لأيام، فيما اعتنى الطبيب الكوري بجراحها.
وبعد هذه المحاولة ببضعة أسابيع في أوائل أغسطس/ آب، انضمت 21 إريترية أخرى إلى مجموعة فيسهاي، حيث اختطفن أيضا على طريق سريع في وسط ليبيا، وجاءت امرأة بصحبة أطفالها الثلاثة وأعمارهم خمسة وسبعة أعوام و11 عاما.
اعتناق الإسلام
وخلال فصل الصيف عزز داعش سيطرته وسط ليبيا، ففي سرت سحق مقاتلو التنظيم انتفاضة للسلفيين فأعدموا معارضيهم وعلقوا جثثهم على أعمدة النور، وفي النوفلية قاموا بعرض للرؤوس المقطوعة لإسكات المعارضة، ثم في سبتمبر/ أيلول أعلن أبو المغيرة القحطاني الشهير باسم أبو نبيل عن حاجة الجماعة الماسة لكل مسلم يستطيع الحضور.
واستدعى المقاتلين والأطباء والخبراء القانونيين والإداريين الذين يمكنهم مساعدته في بناء دولة، وفرض ضرائب باهظة على الأعمال التجارية وصادر ممتلكات الأعداء على غرار ما فعله التنظيم في سوريا والعراق.
وتضخمت أعداد أعضاء تنظيم داعش، ووفقا لتقديرات الجيش الأمريكي فربما تكون الأعداد قد وصلت في ذروتها إلى 6 آلاف مقاتل في ليبيا، وإن كانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قد خفضت هذه التقديرات بشدة في الشهر الحالي إلى ألف مقاتل في سرت.
ويحتاج الرجال العزاب الذين فر معظمهم من أجزاء أخرى من أفريقيا إلى من يؤنس وحدتهم، وقد استعان داعش بالنساء المتقدمات في العمر في سرت للمساعدة.
ويقول العميد جنيدي من قوات مصراتة إن النساء اللاتي أطلق عليهن “الغربان” لاتشاحهن بالسواد قمن بزيارة منازل أهل البلدة وسجلن أسماء الفتيات غير المتزوجات فوق 15 عاما بوصفهن زوجات مستقبليات محتملات.
ومع تزايد طموحات الجماعة في ذلك الصيف، زادت الحاجة للنساء أيضا، ويسمح تفسير تنظيم داعش للشريعة للرجال باتخاذ إماء، وعليه أصبحت النساء المخطوفات اللاتي لا يتمتعن بحماية البعيدات عن ديارهن أهدافا سهلة.
وفي منتصف أغسطس/ آب بعد خطف فيسهاي بأكثر من شهرين، نقل مقاتلو داعش النساء الست وثلاثين المحتجزات إلى هراوة الخاضعة لسيطرتهم، وهي بلدة صغيرة على بعد 75 كيلومترا من سرت.
وتصف فيسهاي والنساء السبع الأخريات، الحياة في هراوة في البداية بأنها كانت شبه طبيعية، فلم تكن هناك ضربات جوية أو ضرب أو تهديد بالعنف الجنسي، تشمل السبايا الإريتريات اللاتي اختطفن في يونيو /حزيران وأغسطس/ آب بمن فيهن فيسهاي ونيجيريتان والزوجان الكوريان وقريبهما، وكانوا يقيمون في مجمع كبير قرب السد بالبلدة.
وفي الأسابيع القليلة التالية انضمت لهن عشر عاملات بالمجال الطبي من الفلبين اختطفن من مستشفى في سرت، ومحاضرة من بنغلادش اختطفت من جامعة سرت، وامرأة حامل من غانا اختطفت في سرت، وإريترية اختطفت هي وطفلها الذي لا يتجاوز عمره أربعة أعوام من على الطريق السريع إلى طرابلس.
وفي تلك المرحلة نشأت صداقة بين فيسهاي وسمرت كيدان (29 عاما) التي تركت أبناءها الثلاثة مع والديها في إريتريا بحثا عن حياة أفضل في أوروبا، وكانت ضمن مجموعة النساء اللاتي اختطفن في أغسطس/ آب، وصادقت كيدان حارسا يدعى حفيظو وهو ميكانيكي تونسي تحول إلى التشدد في أوائل الثلاثينيات من عمره.
وساعد حفيظو النساء على ممارسة حياتهن الجديدة في الأسر، وكان يحضر لهن البقالة وينقل طلباتهن لرؤسائه في سرت، كان يواسيهن حين يبكين، وينصحهن بأن ينسين حياتهن السابقة ويعتنقن الإسلام، وعدهن بأنه بهذه الطريقة يمكن إطلاق سراحهن ليعثرن على زوج من المقاتلين، بل ربما يسمح لهن بالاتصال بذويهن في الديار.
وطلبت النساء تلقي دروس دينية وأحضر لهن نسخة من القرآن مترجمة للغتهن الأولى التيجرينية، كما أحضر جهاز كمبيوتر محمول وذاكرة خارجية حمل عليها نصوصا دينية ودروسا عن حياة المتشددين الذين لاقوا حتفهم.
وكانت فيسهاي أول من رضخت، في سبتمبر/ أيلول بعد أن قضت 3 أشهر في الأسر اعتنقت الإسلام وغيرت اسمها إلى ريما، حذت كيدان والأخريات حذوها بعد ذلك بشهر.
وقالت فيسهاي “لم أستطع أن أرى مخرجا آخر، الإسلام كان خطوة أخرى نحو حريتي، أخبرونا بأننا ستكون لنا بعض الحقوق باعتبارنا مسلمات”.
وبعد اعتناقهن الإسلام أحضر لهن حفيظو العباءات والنقاب الأسود، كان يتعامل معهن عن بعد ويغض البصر، وكان يشرف على ممارستهن للشعائر الدينية من على بعد.
وعلمهن حارس آخر وهو مقاتل سوداني أكبر سنا الصلاة، كان يتلو آيات من القرآن ويطلب من النساء كتابة كلماته وترديدها، حين انتقل الحارس إلى وظيفة جديدة في سرت أحضر حفيظو شاشة تلفزيون وكان يعرض عليها بعض مقاطع الفيديو للدروس الدينية والمهام الانتحارية، وكما وعد سمح حفيظو للنساء بالاتصال بأسرهن.
التحول إلى السبي
وفي ديسمبر/ كانون الأول اخترق إطلاق النار المتكرر الهدوء النسبي للحياة في هراوة، أصبح الطعام شحيحا، كثيرا ما كان حفيظو يستدعى لجبهة القتال ويختفي لأيام.
وذات يوم انفرد بكيدان وأبلغها بأن تستعد لما هو آت، لقد تغيرت القيادة إذ مات أمير التنظيم في ليبيا في ضربة جوية أمريكية قبل ذلك بشهر ومعه مصير النساء.
وقال حفيظو لكيدان “أنتن الآن سبايا”، شرح لها أنها تواجه هي والنساء الأخريات أربعة احتمالات، قد يتخذهن ملاكهن سبايا أو يقدموهن هدايا أو يبيعهن لفصائل أخرى أو يطلقون سراحهن.
وجاء أحد رؤساء حفيظو إلى المجمع لإحصاء أعداد المحتجزين، كتب أسماء وأعمار النساء في دفتر، طلب منهن إزالة النقاب وفحص وجوههن، عاد بعد أسبوع وأخذ اثنتين تبلغان من العمر 15 و18 عاما معه.
وفي 17 ديسمبر /كانون الأول طلب كيدان، في ذلك اليوم أعطاها لعضو ليبي بكتيبة لداعش في سرت، وعلى الرغم من توسلاتها المتكررة رفض مالكها الجديد أن يجمعها بصديقتها فيسهاي، وفرت كيدان والفتاتان المراهقتان ويطلبن الآن اللجوء في ألمانيا.
مصير فيسهاي
وفي نهاية يناير/ كانون الثاني أصيبت فيسهاي بقرحة في المعدة ألزمتها الفراش، وزاد التوتر الأمور سوءا، فأثناء عودتها من زيارة للمستشفى بعد ظهر أحد الأيام شاهدت طفلا لا يتجاوز عمره تسع سنوات وهو يطلق الرصاص على رجل في ساحة المدينة.
وبعد فترة وجيرة نقلت مع بقية النساء المحتجزات إلى مستودع في سرت يستخدمه تنظيم داعش، في تخزين المعدات والوقود والسبايا، وفي نفس الأسبوع لحقت بهن مجموعة تضم 15 امرأة إريترية خطفن في يوليو/ تموز وثلاث إثيوبيات خطفن في يناير/ كانون الثاني.
وأصبح المستودع بالنسبة للنساء آخر جبهة لإظهار التحدي، فبوصفهن مسلمات جدد طالبن بتوفير رعاية صحية أفصل وبتحريرهن من الرق، وكان الرد هو الضرب، ولم تثبت المقاومة جدواها، واشترى مقاتل إريتري يدعى محمد، فيسهاي في فبراير/ شباط وكان دائما ما يزور المكان ليلقي نظرة على النساء.
ولم يذكر أبدا كم دفع ليشتريها وكان يبدو لطيفا في البداية، ويسأل عن صحتها الواهنة وحياتها السابقة في إريتريا، وقالت فيسهاي “كنت حائرة، اعتقدت أنه سيساعدني، ربما تسلل إلى داعش، وربما هو واحد منهم حقا، بدأت أتشبث بالأمل”.
ولكن على العكس مما اعتقدت فقد اغتصبها مرارا على مدى أسابيع، وقالت فيسهاي “لم يطلعنا أحد مطلقا على آية في القرآن تقول إن بمقدورهم استعبادنا… كانوا يريدون تدميرنا… الكثير جدا من الشر في قلوبهم”.
وفكرت فيسهاي في الهرب، لكنها لم تجد سبيلا إلى ذلك، وأعارها مالكها لرجل آخر وهو مقاتل سنغالي يكنى باسم أبو حمزة، وجلب أبو حمزة زوجته وأطفاله الثلاثة إلى الجبهة في ليبيا وكانت فيسهاي تعمل بلا مقابل في مطبخ منزله.
وكان العمل كثيرا لكن يمكن أن يطاق، حتى جاءت ليلة في منتصف فبراير/ شباط عندما أحضر أبو حمزة امرأة إريترية أخرى من المستودع واغتصبها طوال الليل، وتذكر فيسهاي ما حدث في تلك الليلة وقالت “كانت تصرخ وتصرخ، انفطر قلبي… وكانت زوجته تقف بجوار الباب وتبكي”.
في الصباح التالي أقنعت فيسهاي الضحية الجديدة بالهرب سويا، وغادرتا المدينة وهربتا إلى الصحراء، ولم يتوقف أحد لمساعدتهما، وألقت الشرطة الدينية القبض عليهما خارج المدنية.
وعادتا مرة أخرى إلى الأسر، واستعاد أبو حمزة أمته، وأخذ محمد فيسهاي إلى مبنى من ثلاثة طوابق في سرت كان يعيش فيه مع مقاتلين آخرين، وهناك كانت تعيش فيسهاي مع امرأة إريترية أخرى تبلغ من العمر 22 عاما وطفلها ذي السنوات الأربع، وهما ملك قائد تونسي يدعى صالح.
وكانت تعيش امرأة إريترية أخرى عمرها 23 عاما في الطابق السفلي مع طفلها البالغ عامين وطفلتها التي أنجبتها وهي في الأسر، ويمتلك مقاتل نيجيري يطلق على نفسه اسم البغدادي المرأة وطفليها.
وأبلغت المرأتين فيسهاي إنهما تعرضتا للاغتصاب في مناسبات عدة، وتحدثتا عن قصتيهما شريطة عدم نشر اسميهما، وقالت الإريترية والدة الطفلين في وقت لاحق “لم يكن هناك أحد ليساعدني، لذا التزمت الهدوء واستسلمت للانتهاكات… توقفت عن المقاومة، كان يفعل ما يشاء معي”.
الهرب إلى أوروبا
في أبريل/ نيسان هذا العام اتخذت حكومة الوفاق الليبية الجديدة قاعدة بحرية في طرابلس مقرا لها، وعلى نحو منفصل خططت فصائل متنافسة وهي حرس المنشآت النفطية في الشرق وكتائب أمنية في مدن الغرب لمهاجمة تنظيم داعش من اتجاهين مختلفين.
وفي هذه الأثناء في سرت علمت فيسهاي وصديقتاها أن إحداهن وهي المرأة أم الطفلين ستباع لرجل آخر، فدفعهن هذا الأمر للتخطيط للهرب، و تظاهرن بالحديث إلى عائلاتهن لكن في الحقيقة كن يتحدثن إلى مهربين إريتريين في طرابلس.
وقمن بدراسة مواعيد الخاطفين واستطلعن الأماكن المحيطة بهن، عندما كان يمزح معهن التونسي صالح بقسوة بترك مفاتيح المنزل مع أمته بعد أن يصطحب طفلها معه.
وفي النهاية وفي الصباح الباكر يوم 14 أبريل/ نيسان استولت النساء على 60 دينارا ليبيا (نحو 40 دولارا) من حقيبة صالح، وهربن من المنزل عبر باب خلفي، لكن بدت سرت وكأنها مدينة مهجورة وخشين من إلقاء القبض عليهن، وعدن مرة أخرى إلى المنزل.
وغامرن بالخروج مرة أخرى بعد ساعات عندما عادت الحياة إلى المدينة، وسرن على أقدامهن لساعات حتى توقفت سيارة أجرة لهن، تفاوضت فيسهاي مع السائق بلغة عربية ركيكة، وأبلغته أنهن خادمات تعرضن للخداع من رب العمل، وأعطته رقم مهرب إريتري في طرابلس.
وتفاوض السائق مع المهرب عبر الهاتف، واتفق على توصيلهن مقابل 750 دينارا (540 دولارا) سيمنحها المهرب له بعد وصول النساء إلى بني وليد، على بعد خمس ساعات بالسيارة.
لكن الرحلة إلى بني وليد استغرقت 12 ساعة، ودفع المهرب الإريتري بحسب الاتفاق المبلغ للسائق ونقلهن إلى مكان للاختباء فيه، وهناك خلعن النقاب وبكين من الفرحة، وصلين من أجل العشرات اللاتي لا زلن في الأسر.
واستعارت فيسهاي هاتف المهرب واتصلت بوالدها في إريتريا، وبعد قليل انتشر خبر هروبها بين الأصدقاء والأقارب وسددوا دينها ودفعوا ألفي دولار أخرى للمهرب ليضعها في قارب متجه إلى أوروبا.
تعليقات
إرسال تعليق