سلام الله الذى يفوق العقل يَحلّ في قلبك ويَملأ حياتك.
أتعشَّم في وجه يسوع المسيح أن تكون في ملء قوَّة وبركة وعزاء الروح القدس الفاعل في طبيعتنا الضعيفة، ليؤهِّلها شيئاً فشيئاً أن تكون مناسبة للشركة الكاملة والاتحاد السرِّى بالرب يسوع، حيث يكفّ الإنسان أن يكون وحده وتكفّ الطبيعة الرهيفة أن تئن أو تَحزن، بل يَملك الله ملكوته على النفس المتصور فيها.
أسأل إلَهى المملوء مَحبة وبساطة وودّ أن يزيدك شيئاً جديداً في هذه الأيام، أتوسَّل أن يكون كشف النور الأبدي نور الحياة والمعرفة والحق الساكن فينا، حتَّى من خلاله تُعلَن لك أسرار العالَم الجديد، لأنَّها بَهجة للإنسان تفوق كل مسرّات الزمان الحاضر. عالِماً أن قصد الله النهائي أن نُوجَد في هذا النور الذى كله اكتفاء وراحة وسلام، كعربون الاتحاد الخالد الموعود به في شخص المسيح، حيث لا يعود الإنسان يشعر بأي نقص أو عوز مهما بلغ به النقص أو العوز، لأن الإحساس بوجود الله وتقبّل قوَّته يَجعل اكتفاء الإنسان فوق الوصف.
إن عظمة الله الحقَّة، إن سرّ الإيمان الثمين، إن قيمة العبادة والصلاة والحب والتسبيح، تُوجَد ونَحسّها ونعيشها أخيراً، حينما يرتفع ميزان تقدير السلام والرضى والشكر الداخلي فوق زعازع الزمان وأهواله الكاذبة وحوادثه السريعة التغيّر وحتمياته الوهْمية وأباطيله الكثيرة جداً.
ربَّما لو قارنَّا بَيْن سلام الله وسلام العالَم حينما تكون الأمور سائرة على ما يُرام، لا نستطيع أن نُفرِّق بينهما، بل ونُخطئ جداً جداً حينما نُحاول أن نَمزج بينهما، متصوِّرين أنه يُمكن أن يكون سلام الله مرافقاً وزميلاً أو تابعاً لسلام الدنيا وهدوئها، هذا مُحال.
سلام الله الحق تظهر عظمته وجبَروته ويظهر جلال لاهوته حينما نَحسّه ونعيشه ونكرمه وسط أهوال الدنيا وتَخاويفها، فيلغى من قلب الإنسان كل قيمة الأتعاب الحاضرة وكل خسارات القدر التي يلعب بِها الشيطان في عقولنا مُحاولاً أن يزيد من قيمتها كذباً مع أنَّها بالحقيقة عديمة القيمة، والزمن نفسه يثبت تفاهة الخسارات مهما بدت في وقتها أنَّها شديدة وكثيرة. الزمان بِحوادثه كفيل أن يلغى نفسه بنفسه، فكم وكم بالحرى إذا أشرق في قلب الإنسان وفي فكره نور الأبدية وحق الله الخالد الذى لا يتغيَّر ولا يتزعزع ولا يفنَى ولا يتدنَّس!! إن مًجرَّد قدرة القلب لرؤية المستقبل بالتأمّل في حضرة الله وبِمعونة النعمة يلغى الحاضر ويلغى سطوة الزمن وسطوة الجسد وسطوة الشيطان على الحاضر.
على أنِّى أعود وأكرِّر: إن الزمن بِحوادثه كلها كفيل أن يلغى نفسه بنفسه على المدى، فكم وكم بالحرى لو تسلَّح الإنسان برؤية المستقبل منذ الآن في نور الله؟ نعم بالحقيقة لا يعود هَمّ ولا يعود قلق ولا يعود أي اعتبار للحوادث مهما تضافرت معاً مُحاولةً أن تَجعل لنفسها سيادة على فكر الإنسان وضميره!!
وَعْد الله في سفر الرؤيا أن يَمسح كل دمعة من عيني الإنسان المتألِّم هو وَعْد واقعى صادق نُمارسه منذ الآن قطعاً، وقد مارستُه أنا بنعمة الله، لأنِّى واجهتُ آلام الزمان الحاضر بكل عنف الشيطان وأعوانه من بنِى آدم، وبكيتُ ونَزلت دموعي، وكانت دموع عتاب أمام الله، لأنِّى كنتُ أميناً له وظننتُ أنِّى غلبتُ الله، لأنِّى أشهدتُ عليه دموعي بسبب آلام كثيرة عنيفة لا أستحقها، ولكن أخيراً أخيراً جداً أعلمني قيمة آلامي وكيف كانت سبباً لرجولتي الروحية وامتداد قامتي في المسيح، فسألتُ: طيب، وما موقف الله من دموعي الجارحة التي تركت نزيفاً في القلب وجرحاً لا يُنسَى؟ وبينما أنا أسأل هذا وإذ بيد الله تَمسح كل دمعة تساقطت وتلغى كل أثَرٍ تركته أحزان هذا الدهر في كياني الضعيف!! وكأنَّما حوادث الدنيا وهَمّها بعد أن خطَّت في كياني ووجهي خطوطها القاسية علامةً على انغلاب الإنسان بسطوة الألَم، إذ بنور الله يُحيط بِهذه الخطوط إحاطة خفية فيُحوِّل خطوط الألَم إلى أشعة نور وبَهجة سرِّية لا يراها إلاّ القلب والعيْن المفتوحة، ومن خلال هذه الخطوط المضيئة يُرَى مَجد الله ورحْمته وجهاً لوجه.
إنَّها كذبة كبيرة مُلفَّقة ما يُسَمِّيه الناس آلام وأحزان وهُموم وحوادث، إنَّها انعكاسات وهْمية متشابكة أمام العيْن الغشيمة والقلب الساذج تتكوَّن أمامه كتل من الضباب والعتمة، فيختفي وجه الحقيقة والله وعظمة الإنسان وعظمة مواهبه التي تكدَّست في كيانه، فيتركها مَخفية في أعماقه وينشغل بِهذه العتمة المُحيطة.
مزيد من الهدوء والشجاعة، مزيد من الإقدام بثقة الله وإيمانه، يطأ الإنسانُ العتمةَ، حينما يرتفع فوق الحوادث ويطلّ عليها من فوق الزمن.
الإنسان روح خالدة وقد أُعطىَ الإيمان كعيْن تَخترق بقدرتِها أوهام الزمان وتَمتدّ فتَرَى الحقيقة بِجمالِها ونورها، حيث لا يعود أمام الإنسان أي عائق يعوقه عن التقدّم والصعود. وحينما يتوقَّف الإنسان ويتعوَّق عن المسير، يكون ذلك علامةً على تعكير الرؤيا في مَجال الإيمان، وهذا سببه المباشر مُحاولة خلط الزمان بالخلود ومزج حوادث الزمن بِحقائق الأبدية.
من أخطر الأسباب التي تعرقل الإنسان في نُموه الروحي وامتداده إلى الأمام هو مُحاولة إضافة السلام الخارجي إلى السلام الداخلي، هذا فوق أنه أمر مستحيل، فهو يسرق انتباه الإنسان ويَجعله يُحاول جاهداً – دون جدوى – أن يُهيِّئ الجو الخارجي ليصير مناسباً لِحياة سلام روحي أو عزاء داخلي! هيهات، فالحقيقة المدهشة هي أن العكس صحيح، فالسلام الداخلي لا ينشأ إلاّ على أعقاب عدم السلام الخارجي، فكل قلقلة وكل هَمّ وكل انزعاج خارجي يتصفى أخيراً بعد معركة مع قوى الإيمان ويترسَّب في روح الإنسان كخبْرة سلام وعزاء نتيجة لانتصار قوى الإيمان والثقة في الله.
الإنسان لا تزداد روحه قوَّةً بكل صنوف التعزيات الخارجية، بل تزداد اتِّكالاً وهْمياً وراحةً كاذبة تسرق حرارة الداخل شيئاً فشيئاً، حتَّى إذا حدثت التجربة الخارجية تكون النفس في غَيْر استعداد للنهوض والارتفاع فوق عواملها الزمنية، فتغرق النفس في أحزان التجربة.
أمّا روح الإنسان فإنَّها تزداد قوَّةً بقدر ما ترتفع فوق الحوادث وتغلبها.
كذلك من ضمن الأسباب الهامّة التي تُعرقل سَيْر الإنسان في الطريق الروحي هو عدم التفريق بَيْن انفتاح القلب للآخرين كمشاركتهم في حياتِهم وتعزيتهم أو مُجاملتهم وبَيْن انفتاح القلب للتأثّر بالآخرين وبأحوالِهم.
قلب الإنسان هو كنْز الحياة والقوَّة، وهو بيت الله ومَخزن السلام، فيلزم أن ينفتح وينغلق بِحكمة ودقَّة. يلزم أن نتحكَّم في انفتاح قلبنا، فلا ينفتح للناس رغماً عنّا، ولا خلسةً دون أن نشعر، ولا بتهيّجٍ عاطفي غَيْر مُحكَم، لأنه يلزم أن ينفتح للعطاء فقط بالنسبة للناس والأخذ بالنسبة لله. فإذا انفتح القلب خلسةً دون أن نشعر ودون أن يكون لنا قصد وتدبير في العطاء وكميته، فإن القلب يبتدئ يستقبل مشاعر خاطئة ويتأثَّر تأثّرات خاطئة، وتتسرَّب منه أسرار وجواهر، هي مِلْك لله وليست ملكاً له.
هذه كلمات قليلة، أكتبُها راجياً من الله أن يتحدَّث من خلالِها لِروحك، ويزيد عليها من غِنَى معرفتك واستحقاق مَحبتك.
تعليقات
إرسال تعليق