القائمة الرئيسية

الصفحات

فتاة مسيحية استيقظت لتجد نفسها امام خيارين إما ترك دينها واعتناق الإسلام او القتل ومهلة 72 ساعه

من القصص الملفتة في الموصل هي تلك التي تتعلق بالعلاقات الجميلة التي تربط بين مكونات المدينة المختلفة وعمق العلاقات بين بعض السكان رغم حكم المتشددين ومن بينها علاقة وطيدة جمعت بين جارتين احداهما مسلمة والأخرى مسيحية.
 
قصة ام صالح ورافدين تستحق عناء السفر من بغداد الى الموصل والوصول الى منطقة تقع ضمن مرمى نيران قذائف داعش أحيانا، اتصلت بعائلة ام صالح واتفقنا على لقاء في مخيم (500) بمنطقة حمام العليل جنوب الموصل حيث نزحوا.
 
لكن سوء الوضع المعيشي هناك جعلها تنتقل الى منزل صغير في منطقة موصل الجديدة، ولكي أصل الى المنزل كان علي التنقل بأربع سيارات احداها حافلة عسكرية مخصصة لنقل النازحين.
 
تنهمك فتاة مسيحية كلدانية في اجراء جولة مفاوضات مكوكية مع عائلة مسلمة، فتارة تختلي بأم صالح على انفراد لتقنعها وتارة أخرى تتحدث الى الاب والابناء: “يجب ان تنتقلوا الى منزل مجاور لي، لقد اعتدت عليكم لا يمكنني مفارقتكم”.
 
كنت شاهدا على هذا النقاش الذي دار في شقة صغيرة بالجانب الأيمن لمدينة الموصل، غير بعيد عن معركة طاحنة كانت تدور بين القوات العراقية وتنظيم “داعش” المتطرف.
 
لهذه الفتاة المسيحية التي تدعى رافدين وتبلغ من العمر (43 عاما) قصة مليئة بالمغامرات، بدأت عندما استيقظت صباح يوم 19 تموز (يوليو) 2014 وهي في منزلها بالجانب الأيمن لتجد نفسها امام خيارين احلاهما مُر، اما ترك دينها واعتناق الإسلام او القتل، وذلك بعد انتهاء المهلة التي منحها لهم التنظيم آنذاك وكانت (72) ساعة.
 
قبل انتهاء المهلة غادر آلاف المسيحيين المدينة قاصدين سهل نينوى وإقليم كردستان العراق، العشرات فقط بقوا في الموصل وكل له مبرره، بالنسبة لرافدين (43 سنة) لم تعلم بقرارات داعش ضد المسيحيين لأنها تعيش وحيدة وهاتفها الجوال كان مغلقا، ومنذ ذلك اليوم واجهت ظروفا عصيبة بسبب مضايقات عناصر التنظيم والشعور بالوحدة حتى التقت بأم صالح فتغيرت حياتها تماما.
 
ام صالح (45 عاما) امرأة مسلمة عاشت هي الأخرى أوضاعا مأساوية بعدما طردها التنظيم من المسكن الذي اقامت فيه وعائلتها اكثر من (13) عاما، ثم حولوه الى ورشة تفخيخ ومخزن للأسلحة والعتاد، فكانت وجهتها حي المنصور جنوبي المدينة، حيث سكنت في منزل ملاصق لمنزل رافدين.
“علمت بوصول جيران جدد، توجست منهم خيفة أول الامر لأنني خشيت ان يكون ابناؤهم منتمين لداعش فهيأتهم توحي بذلك، اردت التأكد فزرتهم أكثر من مرة حتى اكتشفت انهم مسالمون وطيبون جدا”، تتحدث رافدين من منزل صغير تعيش فيه حاليا مع ام صالح وعائلتها بمنطقة موصل الجديدة بعد عودتهم من مخيمات النازحين جنوب المدينة.
 
ولا يبدو ان رافدين سوف تنسى الأيام الصعبة التي عاشتها تحت حكم داعش، فقد بقيت وحيدة لا حيلة لها سوى التحايل للبقاء على قيد الحياة، لذا شجعت عائلة مسيحية كانت ممن بقوا في الموصل على مرافقتها الى احدى محاكم التنظيم لكي يسلموا على رقابهم بعدما بات امر خروجهم من المدينة مستحيلاً.
 
“هناك أعلنا اسلامنا شكليا فقط لحين الخلاص من هؤلاء المتطرفين، لم أخف غير ان رفاقي صاروا يرتجفون خوفا امام القاضي الملتحي والفض. في الحقيقة كنا نلعب بالنار، أي خطأ يمكن ان يقودنا الى المقصلة” تقول وهي تعدل الحجاب الذي انسحب قليلا عن رأسها.
 
تحدثت طويلا عن مضايقات التنظيم لها وكيف القت الحسبة القبض عليها لأنها لم ترتد النقاب ذات مرة، وتستذكر بتهكم يوم طلب يدها للزواج أحد امراء داعش، “خطبني لكنني رفضت، لا اريد امير ولا سمير”، الجميع ضحك على تعليقها حتى أبو صالح الرجل الهادئ، يبدو انهم معتادون على اسلوبها الساخر.
 
تبادر ام صالح لتكمل القصة “اتذكر رافدين في اول لقاء بيننا، هزيلة وشاحبة الوجه بسبب الوضع النفسي السيئ لقد كانت مرعوبة تجفل لأي سبب، أشفقت عليها كثيرا لأنها مسيحية ووحيدة، فقلت لها نحن اهلك تعالي الينا متى تشائين، اعتبريني أماً لك رغم اننا متساوون في العمر تقريبا، وصرت كذلك بالنسبة لها”.
 
في هذه الاثناء كانت عيون المتشددين تتلصص على المسيحيين الذين بقوا في الموصل بعدما أعلنوا اسلامهم، بينما هذه المرأة كانت تقضي اغلب وقتها في منزل جيرانها الجدد، تأكل وتشرب معهم ولا تعود الى منزلها إلا لتنام.
 
وتضيف ام صالح التي امتلأ وجهها بالتجاعيد وهي ما زالت شابة، لقد شَعرتْ بالأمان في منزلنا لان اقاربها قاطعوها واتهموها بانها أسلمت لتتزوج رجلا مسلما، اما نحن كنا نعلم بالحقيقة فهي لم تترك دينها وأعلنت اسلامها لتحافظ على حياتها فقط، لو علم داعش بذلك لقتلوها وقتلونا معها.
 
وعندما تعسرت الحياة في الموصل زاد تمسك هاتين المرأتين ببعضهما، وفي شباط (فبراير) الماضي انطلقت عمليات تحرير الجانب الأيمن وكان الجوع على أشده في المدينة، فاضطرت رافدين ان تترك منزلها وتسكن مع جيرانها.
 
وتصف ام صالح تلك الليالي المرعبة بتأثر “الصواريخ تسقط كالمطر على الحي، فكنا ننام انا ورافدين وابنتي في غرفة وزوجي واولادي في غرفة أخرى، وكلما دوى انفجار أمسكت رافدين احدى يدي بقوة ومثلها تفعل ابنتي باليد الأخرى. ساء الوضع أكثر فأصبحنا ننام جميعا في غرفة واحدة، نقضي الليل ممسكين بأيدي بعضنا ونقرأ أدعية من القران وهي تدمدم بكلمات من الانجيل”.
 
انقسمت العائلة، الاب واثنان من أبنائه لم يحتملوا هذا الوضع فانتقلوا الى منطقة ابعد عن الاشتباكات، والبقية قرروا الانتظار على امل التحرير، ولما حانت الفرصة للفرار وبدأت ام صالح تحزم حقيبة صغيرة محشوة ببعض الملابس والوثائق المهمة، تقدمت رافدين منها وسألتها: هل تتركيني هنا؟.
 
ضمتها ام صالح الى صدرها وقالت لها لن نتحرك خطوة واحدة من دونك، وقبل ان تغادر المنزل اودعت صليبها المصنوع من الذهب وبعض المال لديها “هذا امانة في عنقك حتى نصل الى القوات العراقية، قلتها وانا أجهش بالبكاء” تقول رافدين.
 
خرجوا سيرا على الاقدام مطأطئي الرؤوس خوفا من قناصي داعش او الاطلاقات والشظايا الطائشة، تشبثت رافدين بيد ام صالح، كانت تضغط بقوة عليها وكلاهما ترتجفان من الخوف.
 
“أخيرا وصلنا الى القوات العراقية وتنفسنا الصعداء، جلست على الأرض ورفعت النقاب الأسود عن وجهي ثم بكيت بحرقة، لقد كانت عبرة مكبوتة في صدري بسبب الرعب والظلم الذي عشته لثلاث سنوات، كنت وحيدة لو لا هذه العائلة” تقول الفتاة المسيحية التي ما زالت تحتفظ بملامح جمال رغم اثار التعب والمشقة الواضحة عليها.
 
رد الجميل
 
بعد رحلة شاقة جدا ومحفوفة بالمخاطر، وصل الجميع الى مخيّم (500) للنازحين في ناحية حمام العليل جنوب الموصل، تسلمت كل منهما خيمة، لكنهما قررتا الاستمرار في العيش معا، اذ اشتركتا بالسكن في خيمة اما الأخرى فكانت لأبي صالح وأبنائه.
 
وهناك سرعان ما انتشر خبر وجود امرأة مسيحية لدى هذه العائلة المسلمة، فانهالت الزيارات عليهم اذ صارت خيمتهم قبلة للباحثين عن قصص الاثارة والتعايش السلمي وكذلك السياسيين.
 
استقبلت رافدين الكثير من الاتصالات الهاتفية من اقاربها داخل العراق وخارجه، يسألونها كيف عشت مع عائلة مسلمة لا تعرفينها؟ كانت تجيب بلغتها الكلدانية: انهم اهلي ليسوا غرباء، ثم تترجم لام صالح مضمون المحادثة.
 
عندما علمت الكنيسة بوجود هذه المرأة الاشورية الكلدانية التي جاءت الى الموصل مع والديها قبل 30 عاما هربا من الحرب العراقية الإيرانية، أرسلت في طلبها الى مدينة أربيل حيث يقيم عدد كبير من مسيحيي الموصل المهجرين، لكن رافدين ردت على الدعوة، “لا اتحرك من هنا الا إذا اصطحبت معي ام صالح وعائلتها”.
 
لم تحقق لها الكنيسة شرطها ربما بسبب الإجراءات المعقدة التي تفرضها سلطات إقليم كردستان على النازحين من الموصل، فبقيت في المخيم لنحو ثلاثة شهور ثم عادت الى المدينة هي وأهلها الجدد.
 
عندما سألتها لماذا لم تذهبي الى أربيل او دهوك حيث تتوفر لك حياة كريمة؟اشارت الى ام صالح وعائلتها وقالت: “اهلي كسروا ظهري، لا يمكنني نسيان جميلهم ابدا”.
 
رافدين عادت الى منزلها في حي المنصور، وام صالح تسكن مؤقتا في شقة صغيرة بمنطقة موصل الجديدة لحين العثور على سكن آخر قريب من عمل ابنائها، لان منزلهم القديم تم تدميره بالكامل جراء القصف.
 
لكن العلاقة التي بينهما لا تنتهي هنا، فما زالت الفتاة المسيحية وام صالح يخططن للعثور على سكن مجاور لبعضهما، لقد سمعتهما تفكران بصوت عالِ.
 
وفي آخر اتصال لي مع عائلة ام صالح تبين انها غادرت منزلها هربا من قذائف الهاون، واضطرت للانتقال الى منطقة المنصور قريبا من رافدين. فها هي الحرب تحقق رغبة المرأتين في النهاية.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات